فصل: تفسير الآيات (188- 190):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (188- 190):

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهياً عنه، وكما قال: {تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85]، ويدخل في هذه الآية القمار والخداع والغصوب وجحد الحقائق وغير ذلك، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه هبه.
وقال قوم: المراد بالآية {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أي في الملاهي والقيان والشراب والبطالة، فتجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.
وقوله تعالى: {وتدلوا بها} الآية، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء.
قال قوم: معنى الآية تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله، فالباء في {بها} باء السبب، وقيل: معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل، وأيضاً فإن اللفظين متناسبتان، {تدلوا} من أرسل الدلو والرشوة من الرشا، كأنها يمد بها لتقضي الحاجة، و{تدلوا} في موضع جزم عطفاً على {تأكلوا}، وفي مصحف أبيّ {ولا تدلوا} بتكرار حرف النهي، وهذ القراءة تؤيد جزم {تدلوا} في قراءة الجماعة، وقيل: {تدلوا} في موضع نصب على الظرف، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه {أن} مضمرة، والفريق: القطعة والجزء، و{بالإثم} معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثماً لما كان الإثم معنى يتعلق بفاعله، و{أنتم تعلمون} أي إنكم مبطلون آثمون، وهذه مبالغة في المعصية والجرأة.
وقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة} الآية، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس؟، وجمع {الأهلّة} وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في الآخر، فإنما جمع أحواله من الهلالية، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر، وقيل ثلاث.
وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع.
وقوله: {مواقيت} معناه لمحل الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد، ومواقيت الحج أيضاً يعرف بها وقته وأشهره، و{مواقيت} لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع، وقرأ ابن أبي إسحاق والحِج بكسر الحاء في جميع القرآن، وفي قوله: {حج البيت} في آل عمران.
قال سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى، وقيل: الفتح مصدر والكسر الاسم.
وقوله تعالى: {وليس البر} الآية، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحاً يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك، فنزلت الآية فيه.
وقال إبراهيم: كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز.
وقال السدي: ناس من العرب، وهم الذين يسمون الحمس، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم باباً ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال إني أحمس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس، ونزلت الآية.
وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت وانت قد أحرمت؟، قال: دخلت أنت فدخلت بدخولك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أحمس، أي من قوم لا يدينون بذلك، فقال الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية.
قال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى: ليس البر أن تسألوا الجهَّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه.
وقال غير أبي عبيدة: المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحتمل والأول أسدُّ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء فبعيد مغير نمط الكلام، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه {البِيوت} بكسر الباء، وقرأ بعض القراء {ولكنَّ البرَّ} بتشديد نون {لكنَّ} ونصب {البرَّ}، وقد تقدم القول على {من} في قوله: {من آمن بالله} [البقرة: 177] {واتقوا} معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية، و{لعلكم} ترجٍّ في حق البشر، والفلاح درك البغية.
وقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} الآية، هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال.
قال ابن زيد والربيع: معناها قاتلوا من قاتلكم وكفوا عمن كف عنكم، ولا تعتدوا في قتال من لم يقاتلوكم، وهذه الموادعة منسوخة بآية براءة، وبقوله: {قاتلوا المشركين كافة} [التوبة: 36].
وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: معنى الآية قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبهه، فهي محكمة على هذا القول، وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله كالحمية وكسب الذكر.

.تفسير الآيات (191- 194):

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
قال ابن إسحاق وغيره: نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد، وهي سرية عبد الله بن جحش، و{ثقفتموهم} معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم، يقال رجل ثقف لقف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور، {وأخرجوهم}.
قال الطبري: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: بل الخطاب لجميع المؤمنين، ويقال {أخرجوكم} إذا أخرجوا بعضهم الأجل قدراً وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، {والفتنة أشد من القتل} أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد من القتل.
قال مجاهد: {أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة}.
قال غيره: بل المعنى الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.
وقوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} الآية، قال الجمهور: كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع.
قال الربيع: نسخه {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}.
وقال قتادة: نسخة قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5].
وقال مجاهد: {الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل}.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش {ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم} بالقتل في الأربعة، ولا خلاف في الأخيرة أنها {فاقتلوهم}، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي: فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون، وذلك كقوله تعالى: {قتل معه ربيون كثير فما وهنوا} [آل عمران: 146] أي فما وهن الباقون، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام، لأن غفران الله ورحمته إنما تكون مع ذلك.
وقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على قول من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم {فإن قاتلوكم}، والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار، دليل ذلك قوله: {ويكون الدين لله}، والفتنة هنا: الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين، قاله ابن عباس وقتادة والربيع والسدي، و{الدين} هنا الطاعة والشرع. وقال الأعشى ميمون بن قيس: [الخفيف]
هو دان الرباب إذ كرهوا الدي ** ن دراكاً بغزوةٍ وصيال

والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام، ويصح أن يكون أداء الجزية، وسمى ما يصنع بالظالمين عدواناً من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع، والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر وفتنة.
وقوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} الآية، قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم: نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً حتى بلغ الحديبية سنة ست، فصده كفار قريش عن البيت، فانصرف ووعده الله أنه سيدخله عليهم، فدخله سنة سبع، فنزلت الآية في ذلك، أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه وأدخلكم الحرم عليهم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه، ومعنى {الحرمات قصاص} على هذا التأويل: أي حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد الشهر والقطان حين دخلتم.
وقال الحسن بن أبي الحسن: نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع فيه، فنزلت: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص}، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين، فأية سلكوا فاسلكوا، و{الحرمات} على هذا جمع حرمة عموماً: النفس والمال والعرض وغير ذلك، فأباح الله بالآية مدافعتهم. والقول الأول أكثر.
وقالت فرقة: قوله: {والحرمات قصاص} مقطوع مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت طائفة: ما تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجائز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي ذلك له، وليس بينه وبين الله في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك.
وقالت طائفة منهم مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قول النبي صلى الله عليه وسلم «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
وقرأ الحسن بن أبي الحسن {والحرْمات} بسكون الراء.
وقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم} الآية، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم، وسمي الجزاء على العدوان عدواناً كما قال: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15] إلى غير ذلك، {واتقوا الله}، قيل: معناه في أن لا تعتدوا، وقيل: في أن لا تزيدوا على المثل.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزَّ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا بقتال الكفار.
وقال مجاهد: بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء، وهي من التدريج في الأمر بالقتال.

.تفسير الآيات (195- 196):

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
{سبيل الله} هنا الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله.
وقال أبو عبيدة وقوم: الباء في قوله: {بأيديكم} زائدة، التقدير تلقوا أيديكم.
وقال الجمهور: ذلك ضرب مثل، تقول ألقى فلان بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحة بيده، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: والله إن إلقاءنا بأيدينا إلى الموت لعجز.
وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول لا تفسد حالك برأيك، و{التهلُكة} بضم اللام مصدر من هلك، وقرأ الخليل {التهلِكة} بكسر اللام، وهي تفعلة من هلّك بشد اللام.
وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا لما ظهر الإسلام أن يتركوا الجهاد ويعمروا أموالهم، وأما هذا فهو الذي قال الله فيه: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [البقرة: 207].
وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل ليس عندي ما أنفق.
وقال قوم: المعنى لا تقنطوا من التوبة.
وقال البراء بن عازب وعبيدة السلماني: الآية في الرجل يقول قد بالغت في المعاصي فلا فائدة في التوبة فينهمك بعد ذلك، وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق أو الكون على عالة الناس، وقوله: {وأحسنوا}، قيل: معناه في أعمالكم بامتثال الطاعات، وروي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل: المعنى أحسنوا في الإنفاق في سبيل الله في الصدقات، قاله زيد بن أسلم.
وقال عكرمة: المعنى وأحسنوا الظن بالله.
وقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}، قال ابن زيد والشعبي وغيرهما: إتمامهما أن لا تفسخ وأن تتمهما إذا بدأت بهما.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وفعله عمران بن حصين.
وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويؤيد هذا قوله: {لله}.
وقال قتادة والقاسم بن محمد: إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص، وهو قول مالك وجماعة من العلماء. وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال وزيادة، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أفضل الحج؟ فقال: العج والثج، ومالك ومن قال بقوله يراه ثج التطوع.
وقالت فرقة: إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن، وهذا على أن الإفراد أفضل.
وقالت فرقة: القرآن أفضل، وذلك هو الإتمام عندهم.
وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم: إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء.
وفروض الحج: النية، والإحرام، والطواف المتصل بالسعي، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافاً لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة على قول ابن الماجشون، وأما أعمال العمرة فنية وإحرام، وطواف، وسعي.
واختلف في فرض العمرة فقال مالك رحمه الله: هي نسة واجبة لا ينبغي أن تترك كالوتر، وهي عندنا مرة واحدة في العام، وهذا قول جمهور أصحابه، وحكى ابن المنذر في الإشراف عن أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه يوجبها كالحج، وبأنها سنة.
قال ابن مسعود وجمهور من العلماء، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي وجماعة تابعين: أنها وجبة كالفرض، وقاله ابن الجهم من المالكيين.
وقال مسروق: الحج والعمرة فرض، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة، وقرأ الشعبي وأبو حيوة {والعمرةُ لله} برفع العمرة على القطع والابتداء، وقرأ ابن أبي إسحاق {الحجِ} بكسر الحاء، وفي مصحف ابن مسعود {وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله}، وروي عنه: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وروي غير هذا مما هو كالتفسير.
وقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما: الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو.
وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو.
وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط وجاور فقد يحصر العدو والماء ونحوه ولا يحصر المرض، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر كأقبر وأحمى وغير ذلك، فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصراً لا حاصراً، ألا ترى أن العدو كان محصراً في عام الحديبية، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر، وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه.
وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالاً ولا قضاء عليه عند الجيمع إلا أن يكون صرورة فعليه حجة الإسلام.
وقال ابن الماجشون: ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لا وجه له.
وقال أشهب: يهدي المحصر بعدو هدياً من أجل الحصر.
وقال ابن القاسم: لا يهدي شيئاً إلا إن كان معه هدي فأراد نحره، ذكره ابن أبي زيد.
وقال عطاء وغيره: المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو.
وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء: المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، وإن قام سنين، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي، وقيل: إن الهدي يجب في وقت الحصر أولاً، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلاً في هذه الآية، وقال: إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه، قال: وإنما قال الله: {فإذا أمنتم} والأمن إنما هو من العدو فليس المريض في الآية.
و{ما} في موضع رفع، أي فالجواب أو فعليكم ما استيسر، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو فاهدوا، و{ما استيسر} عند جمهور أهل العلم: شاة.
وقال ابن عمر وعروة بن الزبير {ما استيسر} جمل دون جمل وبقرة دون بقرة.
وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة واخسّه شاة، و{الهدي} جمع هدية كجدية السرج وهي البراد جمعها جدى، ويحتمل أن يكون {الهدي} مصدراً سمي به كالرهن ونحوه فيقع للإفراد وللجمع.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لا أعرف لهذه اللفظة نظيراً.
وقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم} الآية، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، ومحل الهدي حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر بعدو حيث أحصر إذا لم يمكن إرساله، واما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى محله.
والترتيب أن يرمي الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة، فإن نحر رجل قبل الرمي أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم.
وقال قوم: لا حرج في الحج ولكن يهرق دماً.
وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا: إذا حلق قبل أن ينحر فليهد، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولاً واحداً في المذهب.
قال ابن المواز عن مالك: ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه.
وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة {الهدِيّ} بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية، ورويت هذه القراءة عن عاصم.
وقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً} الآية، المعنى فحلق لإزالة الأذى {ففدية}، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملاً، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة. و{فدية} رفع على خبر الابتداء، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم وغيرهم وجميع أصحاب مالك: ثلاثة أيام، والصدقة: ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم، والنسك: شاة بإجماع، ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل.
وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة: الصيام عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين.
وقرأ الزهري {أو نسْك} بسكون السين.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد: النسْك شاة، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان لكل مسكين، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن كل مدين يوماً.
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: ذلك كله حيث شاء، وقاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا ابن الجهم، فإنه قال: لا يكون النسك إلا بمكة.
وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي: النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء.
وقال الحسن بن أبي الحسن وطاوس وعطاء أيضاً ومجاهد والشافعي: النسك والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما في القرآن أو فإنه على التخيير.
وقوله تعالى: {فإذا أمنتم}، قال علقمة وعروة: المعنى إذا برأتم من مرضكم. وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر، وهذا أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه.
وقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} الآية، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء، وصورة المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه.
وقال ابن عباس وجماعة من العلماء: الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط: أن يكون معتمراً في أشهر الحج، وهو من غير حاضري المسجد الحرام، ويحل وينشئ الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعداً. هذا قول مالك واصحابه، واختلف لم سمي متمتعاً، فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج، وقال غيره: سمي متمتعاً لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هدياً كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفراً، والمكي لا يقتضي حاله سفراً في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئاً لأنه لم يسقط شيئاً، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} المكي وغيره على السواء في القياس، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو أعذر ويلزم هدياً، ولا يفعل ذلك بالمكي، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما هو من أجل إسقاط أحد السفرين، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ له: إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له، ورخص الله تعالى للقادم لطول بقائه محرماً وقرن الرخصة بالهدي.
قال القاضي أبو محمد: فهذه شدة على أهل مكة، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة استباحة ما لا يجوز للمحرم، لكنه قول شاذ لا يعول عليه، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر واستند إليه في الذي وافقه، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال: إنه قال يا أهل مكة لا متعة لكم، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم، وإنما يقطع أحدكم وادياً ثم يحرم بعمرة.
قال القاضي أبو محمد: فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج، وقال السدي: المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة، وذلك لا يجوز عند مالك، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال: قلت يا رسول الله: فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد؟ فقال: بل لأبد أبد، بل لأبد أبد.
قال القاضي أبو محمد: وإنما شرط في المتمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج فمن كان فيها محرماً فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج، وفي كتاب مسلم إيعاب الأحاديث في هذا المعنى، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج خاصتان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال طاوس: من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فو متمتع، وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء، وتقدم القول فيما استيسر من الهدي.
قوله: {لم يجد} إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان، و{في الحج} قال عكرمة وعطاء: له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج.
وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج.
وقال عطاء أيضاً ومجاهد: لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة.
وقال ابن عمر والحسن الحكم: يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، وكلهم يقول: لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم: من فاته صيامها قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق، لأنها من أيام الحج.
وقال قوم: له ابتداء تأخيرها إلى يوم التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر.
وقوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} قال مجاهد وعطاء وإبراهيم: المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق.
وقال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وطنه، إلا أن يتشدد أحد كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان، وقرأ زيد بن علي {وسبعةً} بالنصب، أي وصوموا سبعة، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك بالجملة من قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} قال الحسن بن أبي الحسن: المعنى كاملة في الثواب كمن أهدى، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع، وهذا على أن الحج الذي لم تكثر فيه الدماء أخلص وأفضل خلافاً لأبي حنيفة، وقيل: {كاملة} توكيد كما تقول كتبت بيدي، وكقوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} [النحل: 6]، وقيل: لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها.
وقال الاستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد: المعنى تلك كاملة، وكرر الموصوف تأكيداً كما تقول زيد رجل عاقل.
وقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله} الآية، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه، وهذا على قول من يرى أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج، فكان الكلام ذلك الترخيص، ويتأيد هذا بقوله: {لمن}، لأن اللام أبداً إنما تجيء مع الرخص، تقول لك إن تفعل كذا، وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم عليه لأنه لم يسقط سفراً فالإشارة بذلك-على قوله- هي إلى الهدي، أي ذلك الاشتداد والإلزام.
واختلف الناس في {حاضري المسجد الحرام} بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها، وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم، وليس كما قال: فقال بعض العلماء: من كان حيث تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي.
قال القاضي أبو محمد: فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة، وقال بعضهم: من كان بحث لا تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب، وقال عطاء بن أبي رباح: مكة وضجنان وذو طوى وما أشبهها حاضرو المسجد الحرام.
وقال ابن عباس ومجاهد: أهل الحرم كله حاضرو المسجد الحرام، وقال مكحول وعطاء: من كان دون المواقيت من كل جهة حاضروا المسجد الحرام.
وقال الزهري: من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذر من شديد عقابه.